Bidang

Bayanat (1) Hadits (1) Lughah (1) Syariah (6) Tafsir (1) Umum (4)

Jumat, 22 Februari 2013

اضمحلال معنى العلم تحت سيطرة الثقافة

بقلم: محمد توفيق الإندونيسي

فإن العلم أنفس ما يرحل إليه، وأثمن ما يستفرغ له الجهد وأغلى ما يعصر فيه العرق. فهو المصحح لهدف حياة الإنسان والمؤسس
لخطوات مسيره والمحقق له استقامة مستقبله والحارس له دينه وأهله عرضه. فقد قال صلى الله عليه وسلم في فضل الضرب في طريقه (من سلك طريقا يلتمس فيه علما سلك الله به طريقا إلى الجنة) وفي رواية (من سلك طريقا يطلب فيه علما). وقال صلواة الله وسلامه عليه لأبي ذر رضي الله عنه (يا أبا ذر لأن تغدو لتعلم آية من كتاب الله خير لك من أن تصلي ألف ركعة تطوعا) وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فرأى مجلسين أحدهما يدعون الله ويرغبون إليه والثاني يعلمون الناس فقال: أما هؤلاء فيسألون الله إن شاء أعطاهم وإن شاء منعهم، وأما هؤلاء فيعلمون الناس وإنما بعثت معلما ثم عدل إليهم. 
وبالعلم تميز العلماء عن الجهلاء، وتسامى الأعلام على العوام، قال تعالى: (قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الألباب) وقال المصطفى عليه الصلاة والسلام (إن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب وإن العلماء لم يورثوا دينارا ولا درهما وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذه بحظ وافر) وقال (الناس معادن كمعادن الذهب والفضة فخيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا) ولعل الآية التي أشارت إلى رفعة قدر العلم والعلماء معا قوله تعالى: (يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات).   
ومما لا جدوى أن أطيل الحديث عن فضل العلم والعلماء، إذ الأمر أوضح من أن يفصّل وأبين من أن يطوّل، وقد تكرر له حديث الأئمة في ندواتهم ومحاضراتهم ومنشوراتهم وكتبهم وحلقاتهم. وإنما كان الذي حلّ فيه نظري هو الإجابة عن سؤال : ما هو هذا العلم الذي يعلي بقدر الإنسان؟ وكيف حقيقته؟ وما المعالم التي يعرف بها الجماهير بأنه هو؟ أهو تلكم الثقافة أو المعلومات التي كتبت فنشرت وطرحت فسجلت أم هو ذلك النور الذي قذف الله في القلوب فخافت وخشيت؟.
هذا هو موضوع حديثي أرفعه على سطح العالم الإسلامي ليكون نقدا بناء يأمل من ورائه انبهار مستقبل الأمة. وهو معدود من باكورة أعمالي في ميدان البحث إلا أن أملي فيه عظيم. عسى أن أكون أنا شخصيا أول من يصيبه هذا النقد.
الداء الذي أراه والدواء الذي أقدّمه
تداول على ألسنة القدماء من أئمة الإسلام استعمال "كلمة العلم" في مناسبات شتى، كتعريفهم لفن من الفنون الإسلامية مثل الحديث والتفسير والفقه والنحو، وبيان حقيقة العلم، وآداب طالبيه، والتأدب مع أهله ونحو ذلك. في حين لا يعرف منهم استعمال كلمة "الثقافة" في أيّ من تلك المناسبات. 

ثم مضت على المسلمين سنوات عديدة وقرون طويلة، ودخل في الإسلام كمّ هائل من أتباع أديان مختلفة، فدخلت معهم أفكار غريبة ومعارف جديدة ونظريات حديثة وتجربات الفلاسفة. مما جعل المجتمع الإسلامي يغدو أبناؤهم يدرسون أنواعا شتى من المعارف والفنون منها ما كان إسلاميا صرفا ومنها ما كان ممزوجا بمواد خارجية. فتكثرت بسبب ذلك المهن العلمية، فيقال من علماء المسلمين "مفكّر، وفيلسوف، ومنهدس ...إلخ مما هو أيضا يتوّج على ناس غير المسلمين ولم يشتهر به القدماء. 
فبالعجالة كان مصطلح الثقافة جاء جديدا في مجتمع الإسلام ويعمّ عند الإطلاق كافة المعلومات إسلامية أو كانت أو غربية. وبدأ ينتشر استعماله إلى يومنا هذا وائتلفته الألسنة، فاشتبه على الكثير من المسلمين معنى العلم المتداول على عهد السابقين، فرأوه مرادفا للثقافة، وسووا بينهما معنى ومدلولا. وكاد لا يسمع "الثقافة" إلا والمراد بها العلم، ولا يطلق العلم إلا والمراد به الثقافة. فاستوت الكلمتان مائة في المائة.
        هذا الفهم الذي يتوهم أصحابه مساواة العلم للثقافة كان في نظري داء جديدا متجددا ومتصلبا في المجتمع الإسلامي. إذ كان من آثاره أن وضع الكثير اهتمامَهم بالأفكار الحديثة والنظريات المدهشة أكثر من اهتمامهم بضروريات دينهم. بل الأعجب من ذلك أن ينشأ أجيال تنصرف أنظارهم إلى الاندهاش بأفكار المفكرّين الغربيين ومن تذيلوا بذيلهم اندهاشا لا يتركهم في راحة وانشراح دون تحقيق ما أملوا من تبني تلك الأفكار ليكونوا بعد ذلك مثلما كانوا شهرة وظهورا. 
وهكذا اقتدى أبناء الإسلام بسنن الغرب، وتبنوا نظرياتهم ونصروا فلسفاتهم ودافعون دونهم مهما كان الأمر يتطلب نزع القيم الإسلامية من قلوبهم واستئصال مبادئ دينهم من المجتمع وإلغاء أحكام الله في أرضه. فكمْ سمعنا أن هناك فئات مسلمة كان محل فخرهم أن يفتي رواد ثقافتهم أن الصلوات الخمس مسنونة وليست بواجبة، وأن الإسلام إنما يتحقق بالنطق بالشهادتين فلا صلاة ولا صوم ولا زكاة ولا حج.
السبب في ذلك إساءة الفهم للعلم بجعله مرادفا للثقافة، فاضمحل معناه وصار كأنه ليس سوى ما كتب فيقرأ ويحفظ وألقي فيسمع ويناقش، أو لم يكن سوى المعلومات التي وصلت إلى العقل بعون السمع والبصر، أو أنه والثقافة سيّان. هذا، ولو قال قائل إن الفهم كهذا يكون منطلقا بدائيا في تبني فكرة الانحلال عن الواجبات الدينية والاستقلال التام عن أغلال التكاليف الإلهية لما أبعد. والعياذ بالله.
وإني لا أخجل لأقول: إنه ليس فقط الداء بل هو الطاعون الذي يقتل عقل المجتمع جماعة جماعة. لاسميا عندما يروّج لهم أن لا مفرّ لكل من أراد التقدم فكريا والتطور علميا والترقي حضاريا رغم أنفه من الخضوع لمنتجات عقولهم والمشي فوق نعال فلسفتهم.
بيان ما هو العلم وما هي الثقافة؟
كل شيء يدركه الإنسان فيصير معلوما لديه كان في العرف يطلق عليه "العلم"، وهو أيضا تعريف سائر في اللغة، أعني مطلق الإدراك. وجاء الأصوليون فأخذوا يعرّفونه بأنه إدراك المعلوم - بزيادة - على ما هو عليه بدليل.
أما الثقافة فهي: مجموعة الأفكار والخبرات والمعارف النظرية التي لابد منها بين يدي ممارسة أي من العلوم التطبيقية أو المعتقدات الدينية أو المعاملات الأخلاقية والسلوكية العامة. (هذه مشكلاتنا للدكتور سعيد رمضان البوطي).
يلاحظ أن تعريف الأصوليين أخص من التعريف اللغوي. إذ ما في اللغة يعم كل مدرَك حقا أو باطلا، ناتجا عن دليل أم لا. أما على تعريف الأصوليين خرج بقولهم  "على ما هو عليه" ما لم يكن كذلك، وخرجت بالدليل بدهيات الأمور. وأيضا أن تعريفهم يلتقي مع مضمون الثقافة في كونهما يدوران في فلك واحد هو العقل. غير أن عقلية أهل الأصول أخص من عقلية المثقفين بحيث يجول دورهم فقط حول استنباط الحكم الشرعي فحسب.  
        من هذا المحور فلا أعتبر تعريف أئمة الأصول للعلم تعريفا حقيقيا له مستقلا عن معنى الثقافة بل هو عين الثقافة نظرا إلى كونه عقليّ المجال. ومن ثم فلا أعتمد عليه ولا على تعريف فن آخر من الفنون من أجل تجلية الفرق بين العلم كمصطلح شرعي أصيل حث عليه أجلة أهل العلم وبين الثقافة كمصطلح مستحدث يدبّ في مجتمع العلم.
        على أني أعلم أن من يُثبت قدميه على أن القول بمرادفة العلم للثقافة سوف يصرّ معترضا عليّ. وله نظره ومنطلق نظره. ولكن الجمود على المألوف كما أعتقد سوف يوقعنا في واهية التخبط والبلبلة. لا سيما في مثل هذا الوقت. إذ صح به إطلاقه على مجرد هضم المعلومات المكتوبة والمسموعة، فلِمَن يحفظها بوسعه أن يدعي أنه من أهل العلم مهما كانت حاله. كما صح أيضا إطلاقه على المعلومات الفلسفية على الرغم من وضوح بطلانها بل وحتى على الفنون المحرمة شرعا كالسحر والشعوذة. فلا بد من تفصيل معنى العلم عن الثقافة. والعلم –عندي- هو "الإدراك التام الذي يبعث في القلب نورا يصل به العبد إلى ربه". 
شرح التعريف: 
       مما يشهد له الواقع والذي ليس للعقل مجال لرفضه أن الله أخرج الإنسان من بطن أمه إلى ساحة الدنيا جاهلا لا يعلم من العوالم شيئا حتى ربه ونفسه. وأيّد ذلك قوله سبحانه (والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا). هذه الآية جاءت ليس مجرد الإخبار عن الواقع، إذ لا دليل أقطع من المشهود. بل كانت منزلة تنبيها للأذهان بنعم السمع والبصر والفؤاد. وفيها أشار سبخانه إشارة لطيفة إلى أن الإنسان لن يستطيع التنحي عن جهله إلا حين امتلك تلك الأدوات الإدراكية الثلاث واستخدمها على وجه الكمال، فقال (وجعل لكم السمع والبصر والأفئدة لعلكم تشكرون). وإنما ترك التصريح بأنه هو بنفسه الذي سمّعه وبصّره وفقّهه، إعلاما له بأنه كُلّف بالانتفاع بتلك الأدوات المعرفية انتفاعا كاملا فيعرف ربه فيشكره. 
        استعمال تلك الأدوات الثلاث على وجه الكمال بأن يتم التواصل بينهن في تحصيل معلوماتهن كالسمع بمسموعاته والبصر بمبصراته والفؤاد بمدركاته المعنوية، ذلك ما كنت أقصد بـ"الإدراك التام"، لتمام الترابط والتفاعل بين إدراك حسي وإدراك معنوي. وهو المراد حقا بالعلم إذ به يتحقق وجود الشكر لله تعالى وهو المقصود بقولي "الذي يبعث في القلب نورا يصل به العبد إلى ربه". ولذلك فلو حدث في تلك الأدوات خلل حدث أيضا في تحصيل العلم خلل وربما يعدّ جهلا بالكلية. وتعبير القرآن بـ" لعلّ" يفهمنا أن من الناس من لا يستعملها على وجه الكمال فيبقى جاهلا فلا يشكره.
        وتفيصل الكلام أن الثقافة كما عرفناها من تعريفها السابق وهي مجموعة الأفكار والخبرات والمعارف النظرية التي لابد منها ... إلخ، لم تحصل إلا عن طريق السمع والبصر. لأنها عقلية الميدان. فهي محدودة بالعقل الذي ارتبط دوره بالأمور الحسيات المتعاملة مع السمع والبصر والتي تكون فيما بعد مادة عقلية نظرية. ولذلك يفقد العقل دوره عندما فقد الإنسان السمع والبصر، ومن ثم لم يتحقق له حصول الثقافة أصلا. وليس بمعقول أن يقال: فلان رجل مثقّف أو ذو ثقافة وهو لم يسمع ولم يبصر. إذ لولاهما ما رفع الشرع عباءة التكليف عن فاقدهما معا.
        هذا القدر من الإدراك والذي يحصل عن طريقي السمع والبصر والذي لا يتجاوز الحسيات اشترك فيه المسلمون والمشركون والناس جميعا. فالكل مهيّأ ليكون مثقَّفا أيا كان. لأن العبرة في حصول الثقافة سلامة السمع والبصر، أو سلامة واحد منهما. فهم كله شركاء في القدرة على التحصيل والتفكير ومقارنة الأمور واستيعاب المعلومات والتمكن في التخصصات والإتقان. فلا غروة إذن، إذا وجدنا من الكافرين من استوعب الثقافات الإسلامية لإثارة الشبهات، ومن المسلمين من استوعب الثقافات الغربية للرد على الشبهات. 
وفي ارتباط الثقاقة بحسيات الأمور التي يدركها السمع والبصر دون الفؤاد، قال عز وجل وهو يخاطب عباده الذين خلقهم جهلاء (قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون * قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بليل تسكون فيه أفلا تبصرون) مستعملا في الأولى "أفلا تسمعون" لأن الليل عبارة عن حالة مظلمة قاتمة فالسمع أكثر دورا ونفعا من البصر. بخلاف الثانية فاستعمل فيها "أفلا تبصرون" لأن النهار حالة مشرقة منورة فالبصر أكثر دورا ونفعا من السمع. ولم يتعرض لذكر الفؤاد، لأن المقام في بيان علاقة السمع والبصر بمتعلقاتهما الخارجية حتى تكون لهم مادة نظرية وفكرية فيؤمنوا أو يكفروا.       
        أما مدلول العلم على التعريف الذي تقدم: فأكمل وأشمل وأعم وأوسع من مدلول الثقافة، فيحتاج لكمال تحصيله إلى انضمام أداة أخرى غيبية تلك هي الفؤاد. ثالث الأدوات التي جمعها الله في الآية بعد الإخبار عن جهالة بني البشر تنبيها لهم بأن العلم المؤدي بهم إلى شكر ربهم هو الذي نتج من استعمال الأدوات استعمالا كاملا. ثم إن الفؤاد وحده جعله الله حاكما على ما قدمّه السمع والبصر للعقل. فلو سلم وصلح صلح سائر الأعضار وشكر للسمع والبصر جهدهما، وإذا عمي وفسد فسد سائر الأعضاء وحبط دورهما. ولا شيء. وعنه قال تعالى (لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها) وقال (أفلا تعقلون).
          هنا وقفة تعرّفني طرفا من وجوه إعجاز القرآن من خلال أساليبه وترتيب ألفاظه في تقرير الحكم وتفهيم المسألة من غير حاجة إلى تفصيل. ففي معرض الامتنان بنعم السمع والبصر والفؤاد قال تعالى(وجعل لكم السمع والبصر والبصر) ثم في مقام البيان عن زوال الفائدة في السمع والبصر لفساد الفؤاد أو عُميه قال (لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون). مع أنهم في الواقع يسمعون ويبصرون وبلغت إليهم معلومات دعوة الرسل التي هي مادة التفكير ، وكما قال تعالى (فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور). ذلك لأن شرائط التكليف فيهم مستوفاة كاملة. والله أعلم. 
شهادة اللغة والقرآن للفرق بين العلم والثقافة:
سوف أترك العلم بمعناه اللغوي ولست برافضه وكذا الثقافة. ولكن على الرغم من ذلك فإني أقرّ بإن القول بالترادف بين العلم والثقافة لا مساغ له أيضا لا في اللغة ولا في الشرع. إذ الثقافة من "ثقف" بمعنى الحذق والفطانة يقال ثقف فلان أي صار حاذقا فطنا. بينما العلم من "علم" بمعنى عرف، يقال علم فلان الشيء أي عرفه، ويقال أيضا علمت العلم نافعا. 
فالثقافة معلومات محدودة بالعقل مرتبطة بالحسيات كما أسلفنا، بينما يتجاوز العلم إلى أمور قلبية. ولذلك اتفق أهل اللغة على اعتداد العلم من أفعال القلوب فيكون بمعنى الاعتقاد ويتعدى إلى مفعولين، بخلاف"الثقافة" فلا يتعدى إلا إلى مفعول واحد.
  وقد أكّد القرآن ما أثبتته اللغة من الفرق بين الكلمتين، فكان لم يستعمل فعل "ثقف" إلا في مجال القتال حين قال (واقتلوهم حيث ثقفتموهم) ولم يقل "حيث علمتم"، لأن القتال معلق على تحقق اللقاء عيانا والتقابل بين الطرفين، ولأن العلم قد يعنى به الاعتقاد فاستعماله هنا يُحدث التباسا. بينما استعمال العلم أكثر وأشمل تارة يسند إلى الله وتارة إلى الناس نحو قوله (علم الله أنكم ستذكرونهن) وقول (والله يعلم وأنتم لا تعلمون) وفي تعديه إلى مفعولين قال تعالى (فإن علمتموهن مؤمنات). وماذا نفهم إن قال (والله يثقف وأنتم لا تثقفون)؟.
وبناء على هذا كانت عملية التثقيف غير عملية التعليم بمعنى التعليمُ أعمق وأكمل من التثقيف، يشهد لذلك قوله تعالى في الخضر عليه السلام (وعلمناه من لدنا علما) ثم قال له – أي الخضر – موسى عليه السلام (هل أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشدا) ولم يقل "أن تثقّني" لأنه لا يريد فقط الثقافة لقصورها واقفة عند العقل والمعلومات الحسية وهو نبي من الأنبياء بل كان يريد الأكمل والأتم وهو العلم. 
  ومما يؤكّد نظري أيضا أن طرق تحصيل العلم والثقافة مختلفة. فالثقافة لما كانت إيصال المعلومات الخارجية إلى الذهن فطرق تحصيلها الجلوس بين يدي العلماء والشيوخ والاستماع إلى ما بلغوا وشرحوا، والقراءة من الكتب والمجلات والمنشورات والرسائل، ويمكن أيضا بالاستماع إلى تسجيلا أصوات المشايخ ونحو ذلك مما عرفه جميع البشر كفارا ومسلمين.
أما العلم بتلك الطرق مع ما ذكره أئمة الإسلام قديما وحديثا من حسن النية و مراقبة الله وملازمة عبادته وذكره والاستقامة على النوافل .. إلخ. بأن يترتب على انتفائها انتفاء العلم فتبقى في الذهن المعلومات والثقافة. وبما أنها منتفية فعلا في الكفار والمستشرقين وتلامذتهم انتفى عنهمو العلم واستقرت في أذهانهم الثقافة الباطلة المتوهمة ومنهم تبرأ قوله سبحانه (يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات) وقوله (إنما يخشى الله من عباده العلماء) لأنهم أهل الثقافة لا أهل العلم. واقرأ إن شئت قوله تعالى (واتقوا الله ويعلمكم الله) وتأمل "هل التثقيف –إيصال المعلومات إلى الذهن- في حاجة إلى التقوى؟".
شبهة: استعمل القرآن كلمة العلم على إطلاقه فيعم معنى الثقافة:
إن المألوف بين الناس عن معنى العلم أنه مطلق الإدراك. فكل معلوم لدى الإنسان يعد علما، وأن كلا من العلم و الثقافة صح إطلاق أحدهما على الآخر. وقد عمّم القرآن عندما يتحدث عن العلم مما يومئ إلى شموله معنى الثقافة نحو قوله عز وجل (أفرأيت من اتخذ إله هواه وأضله الله على علم) وقال (ولكن أكثر الناس لا يعلمون، يعلمون ظاهرا) وقال (قال الملأ من قوم موسى إن هذا لساحر عليم) فأقر سبحانه بأنهم ذوو علم ولو على قدر ما. فمحاولة التفريق بين أفراد كلمة العلم بعضها من بعض، أوبين العلم والثقافة من باب التحكم والتكلف؟ الجواب:
أولا: بل القرآن الكريم نفسه هو الذي يكشف لنا الفرق بين استعمل كلمة "ثقف" وكلمة "علم" سواء في متعلقتهما أو فيما أسندا إليه، كما تقدم.
ثانيا: قلتُ إن العلم أعم وأشمل من الثقافة. ومقتضى كلامي أن أفراد الثقافة كلها أفراد للعلم من دون العكس. أما جواز إطلاق العلم على الثقافة فمسلّم وداخل من باب إطلاق الكل على الجزء. وكذا العكس فإطلاق الثقافة على العلم من باب إطلاق الجزء على الكل. وكلٌ جار في اللغة. ولكن ليس معنى ذلك أن يصير الكل هو الجزء والجزء هو الكل، بحيث لا فرق. بل لابد من إبقاء الشيء على حاله وأصله فالكل كلٌ والجزء جزءٌ، وإن صح إطلاق هذا على ذاك. وعليه فالعلم شيء والثقافة شيء آخر.
والقرآن أيضا وإن صحت فيه تسمية الثقافة المجردة بالعلم نظرا للعموم إلا أنه في نصوصه الأخرى نفاها بالكلية مهما بلغ الإنسان في استيعاب المعلومات لتعطيلهم دور الفؤاد. قال تعالى (وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ألآ إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون). في هذه الآية نرى مبالغة في نفي العلم ووصفهم بالجهل بأن تثبت لهم السفاهة (هم السفهاء) ثم أخبر بجهلِهم جهلَهم (ولكن لا يعلمون). مع أن أمم الرسل الغابرة هم أيضا أصحاب الحضارات والثقافات. وهكذا لم يذم الله سبحانه أهل الجهل على جهلهم ولم ينزلهم منزلة السفهاء في كثير من الآيات إلا والمراد بهم قوم ابتلعوا بعقولهم الثقافات العريقة والحضارات الراقية بلغت إليهم دعوة رسلهم إلا أن القلوب قد عميت. فلم يكونوا إلا أصحاب الثقافة.  
سؤال آخر: وهل تعنى بذلك أن العلم خص بما ينفع والثقافة بما لا ينفع؟ وأجيب بأن كلامي لم يقتض البتة أن العلم خص بما ينفع وخصت الثقافة بما لا ينفع. وإنما أريد به تصحيح الوهم والتقرير بأن الثقافة طريق موصلة إلى العلم ووسيلة لابد منها، أو أنها من مكملات العلم وليست هي ذاته لتوقفها عند العقل، ثم تبيين أن من أهل الثقافة من وصل إلى العلم ومنهم من يقف عند ثقافته، قال تعالى (أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعدما عقلوه وهم يعلمون)، وأن القول بمرادفة الثقافة للعلم عندي فهم مغلوط للعلم قد يجر ببعض المسلمين – وقد حصل - إلى رغبة الانفصال عن أداء تكاليفه الدينية اكتفاء بالثقافة على أنها هي العلم.
والخلاصة: فمحل النزاع ليس في الإطلاق اللغوي لكل من العلم والثقافة وإنما في القول بالترادف بينهما. وتحرير المسألة أن العلم أشمل وأجمع من الثقافة وأن الفؤاد إدراك خاص زائد يتسامى به أهل العلم على أهل الثقافات المجردة. والله أعلم. 

0 komentar:

Posting Komentar