تطور المنطق : صراع " الأسلمة "

بقلم : زعيم الدين بن عبد العظيم بن زَيّادي

لم يكن المنطق علما ابتكره المسلمون وإن كانت أصوله العقلية استعملها البشر منذ فجر التاريخ، ويرجع الفضل في تقنين ضوابطه وتدوين مسائله وتهذيب مباحثه إلى حكماء اليونان ومعلمهم أرسطو، وذلك لما ابتعدوا أو بعدوا عن الوحي اهتدت عقولهم إلى المنطق الذي هو مفتاح الجدل والنظر والفلسفة، والذي ظنوا أن فيه ما يجلى تيههم العقلي والروحي معا.

 ولم يحتج المسلمون في الصدر الأول إلى هذا الفن، فرسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم يتلو عليهم أيات الله ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة، فانشرحت صدورهم بالإسلام، واطمئنت قلوبهم بذكر الله، واستأنست عقولهم بالتفكر في خلق الله، فازدادوا إيمانا ويقينا. حتى إذا كانت الفتوحات، وتلاقت الأجناس، واحتكت الثقافات، أراد الحاقدون أن يقضوا على ما كان عليه الصدر الأول من رسوخ الإيمان الذي به الظفر والسعادة، فدكوا شموخ العقيدة بالشبهات والسفسطة، ويُرى جدوى مكرهم في ضعاف القلوب، فصاروا يشُكّون في البدهي نتيجة المغالطات الفلسفية.

وتنبه العلماء فرأوا أن يصدوا هذا الكيد الخبيث حجة بحجة، ولم يكن بد من استعمال سلاحهم الأساسي: المنطق. لذا يكاد الباحثون يجمعون على أن أول ما عرف المسلمون من تراث اليونان الفلسفي هو المنطق. فهذه هي المرحلة الأولى، مرحلة الترجمة، وقد ترجم المنطق من الفارسية إلى العربية عبدُ الله بن المقفع الذي اختُلف في صدق سعيه.   

ثم كانت المرحلة الثانية مرحلة الشرح وعرض المنطق اليوناني بلا تغيير سوى اللغة، قال ابن خلدون: (وترجمت كلها في الملة الإسلامية. وكتبها وتناولها فلاسفة الإسلام بالشرح والتلخيص، كما فعله الفارابي وابن سينا، ثم ابن رشد من فلاسفة الأندلس) ^([1]). فألف الكندي رسلة في الحدود، وشرح الفارابي منطق أرسطوا دون تعديل، نعم، لابن سينا إضافات وجهود مشكورة في " أسلمة المنطق ". وألف ابن حزم الظاهري كتاب (التقريب لحد المنطق بالألفاظ العامية والأمثلة الفقهية) شرح فيه أراء أرسطو وخالفه في بعض أصوله.

وفي تلك الفترة كانت المرحلة الثالثة: مرحلة الصراع بين منكر للمنطق ومؤيديه، صراع الوجود للوافد الجديد المثير للجل، وقد أنكره الشافعي وقال: (ما جهل الناس ولا اختلفوا إلا لتركهم لسان العرب وميلهم إلى لسان أرسطاطاليس !) ^([2]). وأنكره أيضا كثير من العلماء كالباقلاني.

ثم كانت المرحلة الرابعة، وهي مرحلة " الأسلمة " أو عرض المنطق عرضا لا يخالف مبادئ الإسلام، وكان الغزالي هو المازج الحقيقي للمنطق بعلوم المسلمين، فألف فيه (معيار العلم) و(محك النظر) و(القسطاس المستقيم). وقدم في (المستصفى) مقدمة منطقية وقال: (هي مقدمة العلوم كلها ومن لا يحيط بها فلا ثقة له بعلومه أصلا !!) ^([3]).

ومع ما بذله الغزالي من الجهود المشكورة في تعبيد المنطق إلا أن المعارضة لا تزال قائمة، وقد أفتى ابن الصلاح صراحة بحرمة المنطق: (وأما المنطق فهو مدخل الفلسفة، ومدخل الشر شر، وليس الاشتغال بتعليمه وتعلمه مما أباحه الشارع) ^([4]). وألف ابن التيمية (الرد على المنطقيين) وقال عن المنطق: (لا يحتاج إليه الذكي ولا ينتفع به البليد) ^([5]) -وفي كلامه نظر-. وألف ابن الوزير الصنعاني: (ترجيح أساليب القرآن على أساليب اليونان) ^([6]).

وفي الوقت نفسه يظل مؤيدو المنطق يجتهدون في تنقيته وتقريبه وتلخيصه في المتن المنثور أو المنظوم ثم شرحه وتقريره ووضع الحواشي، وهذه مرحلة خامسة: مرحلة المتن. وأشهر المتن (متن الشمسية) لنجم الدين عمر القزويني الكاتبي، ألفه لخواجه شمس الدين محمد، وله شروح وحواش. ومن المتن المنثور المشهور (تهذيب النطق والكلام) لسعد الدين مسعود التفتازاني، وهو متن متين ^([7]) فأكب عليه المحققون بالدرس والإقراء والشرح، ومن أشهر شروحه (التذهيب) شرح عبيد الله بن فضل الله الخبيصي. وأشهر متن منظوم (السلم المنورق) لعبد الرحمن الأخضري، وله شروح وحواش كثيرة منها شرح الشيخ أحمد عبد المنعم الدمنهوري في (إيضاح المبهم)، وشرح العلامة الشيخ الملوي، وحاشية الشيخ العلامة الباجوري.

ثم كانت المرحلة السادسة مرحلة المنطق الحديث، فأدخل فيه مبحث الاستقراء ومناهج البحث، وقد رأى المعاصرون أن يعرض المنطق بلغة العصر وأسلوب مبتكر، ويتجلى ذلك في تيسير مقررات دراسية في المعاهد والجامعات، كما فعل د/ محمد شمس الدين سالم في (تيسير القواعد المنطقية شرح الرسالة الشمسية) والشيخ عبد المتعال الصعيدي في (تجديد علم المنطق في شرح الخبيصي على التهذيب)، و أ د/ عوض الله حجازي في (المرشد السليم في المنطق)، ود/ صلاح عدلي في (المنطق التطبيقي)، ومن أحسن ابتكار المعاصرين كتاب (ضوابط المعرفة وأصول الاستدلال والمناظرة؛ صياغة للنطق وأصول البحث متمشية مع الفكر الإسلامي) لعالم الشام الشيخ عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني.

ولا يزال الجهود تترى لإثبات " أسلمة " المنطق، -أو وَأدِه ؟-.  والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.

---

([1]) المقدمة لعبد الرحمن بن خلدون ص: 646 ط. دار الفكر.

([2]) سير أعلام النبلاء للذهبي، 10 / 74 ، ط. الرسالة.

([3]) المستصفى في علم الأصول لحجة الإسلام أبي حامد الغزالي ص: 10، ط. دار الكتب العلمية.

([4]) فتواى ابن الصلاح في التفسير والحديث والأصول والعقائد، ص: 43، ط. القاهرة.

([5]) الرد على المنطقيين للعلامة تقي الدين ابن تيمية، ص: 45، ط. مؤسسة الريان.

([6]) المنطق التطبيقي، د/ صلاح محمود عدلي، ص: 42 ط. كلية الدراسات الإسلامية جامعة الأزهر.

([7]) كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون لمصطفى القسطنطيني 1 / 515 ط. دار الكتب العلمية.